سورة الملك - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الملك)


        


{تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 67/ 1- 11].
تعاظم اللّه تعالى وتقدّس وتمجّد عما سواه، ذاتا وصفة وفعلا، وتبارك أيضا:
تزايد في الخيرات، فهو المالك لكل شيء، وهو تام القدرة على كل شيء، لا يعجزه شيء، يتصرّف في ملكه كيف يريد، من إحياء وإماتة، ورفع وخفض، وإنعام وانتقام، وإعطاء وحرمان.
فهو الذات الأعظم، والمالك المطلق، والمتصرف كيف يشاء والقادر على كل شيء. ومن آثار قدرته:- أنه تعالى أوجد الموت والحياة، وقدرهما من الأزل، ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم، فيجازيكم على ذلك، وهو القوي الغالب القاهر، الذي لا يغلبه ولا يعجزه أحد، الواسع المغفرة والسّتر لذنوب عباده. وهذا دليل على أن الموت أمر وجودي، لا عدمي، لأنه مخلوق. والقصد من الابتلاء:
إقامة الدليل الحسّي على أفعال العباد، وإظهار كمال المحسنين وإساءة المسيئين.
والموت والحياة: معنيان يتعاقبان جسم الحيوان (الكائن الحي) يرتفع أحدهما بحلول الآخر. وقدّم الموت على الحياة في الآية، لأنه أدعى إلى العمل. وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} أي ليختبركم في حال الحياة، ويجازيكم بعد الموت.
- ومن مظاهر قدرته: أنه تعالى أوجد أو أبدع السماوات السبع، المتطابقة بعضها فوق بعض، كل سماء منفصلة عن الأخرى، لا تشاهد أيها الناظر المتأمّل في مخلوقات الرحمن تناقضا وتباينا أو قلّة تناسب وخروج عن الانسجام، وإن كنت في شك من ذلك، فكرر البصر، هل تشاهد فيها من صدوع وشقوق؟ وهذا دليل على تعظيم خلقها وسلامتها من العيوب. ثم ردد البصر ودقّق مرة بعد مرة، يرتد إليك البصر صاغرا ذليلا عن رؤية شيء من الخلل أو العيب في خلق السماء، وهو كليل عيي من كثرة التأمل وإعادة النظر.
- ومن مظاهر القدرة الإلهية أيضا أننا- اللّه- زيّنا أقرب السماوات إلى الناس بمصابيح، أي بكواكب أو نجوم ثوابت وسيارات، تضيء كإضاءة السّراج، وجعلنا بعض تلك الكواكب راجمات لرجم الشياطين، وهيّأنا أو أعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب المنقصة عذاب النار الملتهبة، بسبب فسادهم وإفسادهم.
وهيأنا للذين كفروا بربّهم، وكذبوا رسله، عذاب نار جهنم، وبئس المرجع وما يصيرون إليه، وهو جهنم. ثم ذكر اللّه تعالى للنار أربع صفات وهي:
- إذا طرح الكفار في نار جهنم، كما يطرح الحطب في النار العظيمة، سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمير أول نهيقها، وهي أيضا تغلي بهم غليان المرجل.
- تكاد تلك النار، أي تقترب أن تتقطع من شدة غيظها على الكفار. لكن أولاد الأنبياء والمؤمنين قبل البلوغ: هم في الجنة، وكذلك أولاد المشركين بدليل هذه الآية المتضمنة مساءلة الخزنة.
- وكلما طرح فيها فوج، أي جماعة من الكفار، سألهم أعوانها وزبانيتها سؤال تقريع وتوبيخ: أما جاءكم في الدنيا رسول منذر، ينذركم هذا اليوم، ويخوّفكم منه؟
والآية تقتضي أنه لا يلقى فيها أحد إلا سئل على جهة التوبيخ عن النّذر.
فأجابهم الكفار: مقرين بأنهم جاءوهم وكذّبوهم، قائلين: بلى جاءنا رسول من عند اللّه ربّنا، فأنذرنا وخوّفنا، لكنا كذبنا ذلك النذير، وقلنا له: ما نزّل اللّه من شيء على لسانك، ولم يوح إليك بشيء من أمور الغيب، وأخبار الآخرة والشرائع المنزلة، وما أنتم أيها الرّسل، إلا في متاهة وانحراف عن الحق، وبعد عن الصواب.
وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار، ويحتمل أن يكون من كلام الكفار للنذر.
وأجابوا أيضا بأننا نلوم أنفسنا، فلو كنا نسمع ما أنزل اللّه من الحق سماع الواعين والمهديين، أو نعقل عقل من يميز وينظر وينتفع، لم نكن من أهل النار، ولم نكن من الكافرين بالله. فأقرّوا معترفين بما صدر عنهم من ذنوب: وهو الكفر وتكذيب الأنبياء، فبعدا لهم من اللّه ومن رحمته، فهم أصحاب النار الملتهبة. إنهم اعترفوا بذنبهم في وقت لا ينفع فيه الاعتراف.
وعد المؤمنين ووعيد الكافرين:
لا تظهر ثمرة الإيمان إلا بخشية اللّه تعالى، ولا تتحقق الخشية إلا برقابة اللّه في السرّ والعلن، ولا ينفصل الدين عن العمل للدنيا، والعمل للدنيا أمر مطلوب للتعرّض لرزق اللّه تعالى، فإن الرزق مرتبط بالسّعي. وكيف يأمن الكافرون عذاب اللّه تعالى في الدنيا كالخسف والزلزال، أو إرسال الحاصب وهي الريح الشديدة التي فيها حصباء لرجم العصاة؟ ألم يعتبر هؤلاء بمن كذب من الأمم الماضية فعوقبوا عقابا منكرا عظيما؟ ولم لم يتأمّلوا بمخلوقات اللّه العجيبة ومنها الطيور سابحات في الفضاء، بإمساك اللّه وتدبيره؟ كما هو واضح مما يأتي من الآيات:


{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} [الملك: 67/ 12- 19].
يصف اللّه المؤمنين، وهم: إن الذين يخافون ربّهم بالغيب، أي في خلواتهم، غائبين عن أعين الناس، حيث لا يراهم أحد إلا اللّه تعالى، أو بالغيب الذي أخبروا به من الحشر والنّشر، والصّراط والميزان، والجنة والنار، فآمنوا بذلك وخشوا ربّهم فيه، لهم مغفرة واسعة لذنوبهم، ولهم ثواب جزيل، وهو الجنة.
واللّه مطّلع على كل شيء، فسواء أخفيتم كلامكم أو جهرتم به، فالله عليم به، يعلم كل ما في الصدور، أي خواطر النفوس والضمائر. والآية خطاب عامّ لجميع الخلق في جميع الأعمال.
قال ابن عباس: نزلت في المشركين، كانوا ينالون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فخبّره جبريل عليه السّلام بما قالوا فيه، ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم، لئلا يسمع إله محمد، فنزلت هذه الآية.
وأدلة سعة علم اللّه تعالى كثيرة، ألا يعلم الخالق خلقه فهو الذي خلق الإنسان، وأوجد السرّ ومضمرات القلوب؟ فالله أعلم بمن خلقه، لأن الصانع أعلم من غيره بالمصنوع، وهو سبحانه العليم بدقائق الأمور وما في القلوب، والخبير بما تسرّه أو تضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
وقوله: {مَنْ خَلَقَ} من: فاعل لفعل (يعلم) كأنه تعالى قال: ألا يعلم الخالق خلقه؟ فالمفعول على هذا محذوف. أو منصوب بفعل (يعلم) كأنه تعالى قال: ألا يعلم اللّه من خلق؟
وأدلة قدرة اللّه تعالى كثيرة، منها أنه هو الذي سخّر لكم الأرض، وذلّلها لكم، أي جعلها مذلولة سهلة، لينة، قابلة للاستقرار والحياة عليها، فسيروا في نواحيها وجوانبها، وكلوا مما رزقكم اللّه وخلقه لكم في الأرض، ومكّنكم من الانتفاع بها، وإليه النشور، أي البعث من قبوركم إلى اللّه، لا إلى غيره. والآية دليل على قدرة اللّه ومزيد إنعامه على خلقه، وعلى أن السّعي واتّخاذ الأسباب لا ينافي التوكّل على اللّه، وعلى أن الاتّجار والتّكسب مندوب إليه. أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بقوم، فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكّلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما المتوكّل رجل ألقى حبّه في بطن الأرض، وتوكّل على اللّه عزّ وجلّ.
أتأمنون أن يخسف، أي يغوّر ويقلع اللّه بكم الأرض؟ كما خسف بقارون، بعد ما جعلها لكم ذلولا تمشون أو تسعون في جوانبها وطرقها، فإذا هي تضطرب وتتحرك بشدة. والمراد بهذا الاستفهام الوعيد والإخبار بقدرة اللّه على تعذيب من كفر بالله أو أشرك مع اللّه إلها آخر.
بل هل أمنتم ربّكم اللّه الذي هو في السماء كما تزعمون، وهل أمنتم قدرة اللّه على أن يرسل عليكم ريحا شديدة مصحوبة بالحصى أو الحجارة الصغيرة؟ وحينئذ إذا عاينتم العذاب تعلمون كيف كان إنذاري وعقابي لمن خالف وكذب به.
ولقد كذب الكفار الذين كانوا قبلهم، كذبوا الرّسل، فكيف كان إنكاري عليهم بما سلّطت عليهم من العذاب الشديد؟! أو لم ينظروا إلى الطير فوقهم في الأجواء العليا، وهنّ باسطات أجنحتها تارة، وقابضات لها تارة أخرى؟ ما يمسكهنّ في الهواء إلا اللّه الرّحمن القادر على كل شيء، إنه تعالى عليم بصير بما يصلح كل شيء من مخلوقاته، لا يخفى عليه شيء من دقائق الأمور وعظائمها.
تحدّي عبدة الأصنام وإظهار كمال القدرة الإلهية:
تحدّى اللّه المشركين عبدة الأصنام وأبطل اعتقاداتهم في أصنامهم من قوة وجلب خير فيها، ثم أقام تعالى أدلّة أربعة على كمال قدرته وهي تحليق الطيور في الهواء، كما في آية سابقة، وتزويد الإنسان بمفاتيح المعرفة، من السمع والبصر والفؤاد أو العقل، وشعوره بذاته في الوجود، وضمان تكاثر النوع الإنساني، ورفده بالمدد الإلهي والرزق الدائم، ثم أظهر اللّه حفظه لنبيّه حين دعوا عليه بالهلاك، وإعذاره حين طالبوا بتعيين وقت العذاب الذي خوّفهم به، كما في هذه الآيات وما بعدها:


{أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} [الملك: 67/ 20- 24].
قل يا محمد لهؤلاء المشركين عبدة الأصنام، على جهة الإنكار والتيئيس من تحصيل مبتغاهم من الأوثان: بل من هؤلاء الجند من غير الإله الرحمن، أي أعوان المذهب الذين يعينونكم على ما تطلبون، ويمنعونكم من عذاب اللّه، إن أراد بكم سوءا؟! ما الكافرون في الواقع إلا في تغرير خادع من الشيطان بأن العذاب غير نازل بهم. والآية ردّ على الكافرين الممتنعين من الإيمان، والمعتمدين خطأ على وجود قوة من جهة الإخوان والأعوان.
- وقل لهم أيضا: من هؤلاء الذين يرزقونكم إن منع اللّه رزقه عنكم؟ لا أحد يعطي ويمنع غير اللّه، ولا أحد يرزق أو ينصر إلا اللّه عزّ وجلّ. بل إنهم في الواقع تمادوا في غيّهم وعنادهم واستكبارهم، ونفروا أو ابتعدوا عن الحق، وساروا في طغيانهم الفكري وممارساتهم الضّالّة، ولم يتّعظوا ولم يتفكّروا في الحقيقة. والآية واضحة الدلالة على أنه لا ناصر ينصر من عذاب اللّه، ولا رزاق يرزق غير اللّه، إن حجب رزقه عن مخلوقاته.
والفرق واضح بين المؤمن والكافر: أرأيتم معشر الناس حال المؤمن والكافر؟! الكافر يمشي متعثّرا في كل وقت، ساقطا على وجهه من حين لآخر، لا يدري مسلكه وكيفية ذهابه، بل هو تائه حائر ضالّ. أهذا أهدى إلى الطريق القويم، أم ذلك المؤمن الذي هو كمن يسير معتمدا على ذاته، معتدلا في مشيته، ناظرا أمامه، على طريق مستو، لا عوج فيه ولا انحراف؟ فهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة، سواء في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس وابن الكلبي وغيرهما: نزلت هذه الآية مثلا لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم، ولأبي جهل بن هشام. وهي إما إخبار بأحوال الفريقين في الدنيا أو في الآخرة.
وهذا برهان آخر: برهان الرزق بعد تمكين الطير من التحليق، على قدرة اللّه، وبرهان ثالث: قل: أيها الرسول لهؤلاء المشركين: إن اللّه ربّكم هو الذي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، وأوجد لكم حاسة السمع لسماع المواعظ، وحاسة البصر للنظر في بدائع خلق اللّه، والقلوب والعقول للتأمل والتفكير في مخلوقات اللّه وإدراك حقائق الأشياء، ولكن قليلا ما تستعملون هذه الطاقات التي أنعم اللّه بها عليكم، وقليلا ما تشكرونه بصرف تلك النّعم إلى ما أوجدت لأجله في الخير، والبعد عن التّورّط في الشرّ، فإذا لم تستعمل هذه القوى في طلب مرضاة اللّه، فأنتم ما شكرتم نعمته مطلقا. وإنما خصّت بالذكر مواهب السمع والبصر والفؤاد، لأنها أداة العلم والمعرفة. وقوله تعالى: {قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} إما تعبير عن قلّة الشكر، أو إرادة نفي الشكر جملة.
وبرهان رابع على كمال قدرة اللّه، قل أيها النّبي أيضا للمشركين: إن اللّه هو الذي خلقكم ووزعكم في الأرض على جهة التكاثر، مع اختلاف ألسنتكم ولغاتكم وألوانكم، ثم إليه تجمعون بعد هذا التفرق والتّشتت، فهو يجمعكم كما فرّقكم، ويعيدكم كما بدأكم، للحساب والجزاء. فالحشر المشار إليه في الآية: هو بعث القيامة.
إن أدلة إثبات القدرة الإلهية كثيرة، ذكر منها في هذه الآيات ثلاثة، وفي الآية السابقة عليها ذكر دليل آخر، فتكون الأدلة الأربعة: تمكين الطيور من التحليق في أجواء السماء، ومثلها وعلى نسقها اختراع الطائرات، وإمداد المخلوقات بالرزق من عند اللّه، دون غيره، وإيجاد المخلوقات، ومن أخصّها الإنسان، وتزويده بطاقات السمع والبصر والعقل، التي هي مفاتيح المعرفة والعلم والإبداع، وضمان تكاثر النوع الإنساني الموزع في أنحاء الأرض، مع اختلاف الألوان والأشكال، والألسنة واللغات، والعروق والأجناس، وكل قوم راضون بأوطانهم وديارهم، ومتمسكون بأراضيهم للحفاظ على وجودهم، ثم يجمعون يوم القيامة إلى اللّه في المحشر، لإقامة صرح العدالة، وإنصاف المظلومين من الظالمين، والمحسنين من المقصّرين أو المسيئين.
العالم بالقيامة وتهديد المنكرين لها:
يوم القيامة أو البعث حق ثابت قطعا، لا شكّ فيه، ولكن العلم به وبوقته مختصّ بالله تعالى، ومهمة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم مجرد الإخبار والإنذار، وفي ذلك اليوم الرهيب يصطدم الكافرون بأهواله. وتمنّي الكافرين هلاك النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمل خادع لا فائدة فيه، ولا يبدل من جزائهم شيئا، فالعذاب لاحق بهم، ولا ينجيهم إلا الإيمان بالله وحده لا شريك له، ومع هذا الموقف الرافض منهم للإيمان ينعم اللّه على المخلوقات بلا حساب، ومن نعمه العظمى: رفد الناس بالماء سبب الحياة، كما جاء في الآيات الآتية:

1 | 2